19 - 11 - 2024

صباحيات | مبادرة "بداية جديدة" وجسر الفجوات

صباحيات | مبادرة

تأخرت مبادرة الرئيس عبد الفتاح السيسي لإعادة بناء الإنسان كثيراً، لكن المثل يقول "أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً". 

تضمنت المبادرة عدداً من المفاهيم والمرتكزات التي تعبر عن تحول في فلسفة التنمية، بعد عشر سنوات تركزت فيها الجهود التنموية للدولة على مشروعات البنية الأساسية، بشكل رئيسي، وعلى نحو حجب التقدم الذي تحقق في مجالات ركزت النهوض بالبشر، من خلال مبادرات استهدفت العشوائيات والرعاية الصحية والنهوض بالقرية. أفرزت التجربة خلال السنوات العشر الماضية عدداً من الفجوات التي جرى رصدها وتحليلها على ما يبدو من قبل المؤسسات المعنية في الدولة، أتبعتها سلسلة من الإجراءات والتحركات في محاولة لجسر هذه الفجوات من خلال مشروع قومي للتنمية البشرية، يركز على الاستثمار في رأس المال البشري من خلال برنامج عمل شامل ينسق بين أجهزة الدولة ويشرك المجتمع الأهلي والقطاع الخاص، لتنفيذ هذه المبادرة.

أولى هذه الفجوات، هي الفجوة بين ما تحقق من إنجازات خلال السنوات العشر الماضية وشعور المواطنين بالعوائد الإيجابية لهذه الإنجازات. وإذا شئنا الصراحة في هذه النقطة تحديداً، يمكن القول بدرجة من الثقة من واقع المعطيات التي يمكن لأي مراقب أن يلمسها يومياً، بمقارنة متوسط مستويات الدخل للقطاعات الأوسع للمواطنين بمستويات أسعار السلع والخدمات المنفلتة. لقد تضاعفت تكاليف العيش في السنوات العشر الماضية عشر مرات أو أكثر إذا ما قارنّا مستويات الأسعار، ولم تتحسن الدخول على نحو يواكب هذه الزيادات، ومن شأن هذا الوضع أن يعزز اقتناع المواطنين بأن مشروعات البنية الأساسية كانت على حسابهم، ولم تعد عليهم بأي نفع بل كانت سبباً في ارتفاع الأسعار، لاسيما أسعار الخدمات. وتكفي نظرة خاطفة على ما يتحمله المواطن من أعباء لتوفير الدواء والغذاء والتعليم، وما يدفعه مقابل الحصول على خدمات أساسية، كالكهرباء والمواصلات. والبيانات التي يصدرها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن تكاليف المعيشة قد تعطي لمحة للمسؤولين لقياس هذه الفجوة.

ثاني هذه الفجوات، هي الفجوة بين القاهرة بوصفها العاصمة والمركز والمدن الكبرى في الوجه البحري ومحافظات الصعيد والقرى، أو ما يعرف إجمالا بالفجوة بين الريف والمدينة من حيث مستوى المعيشة وفرص العمل والدخل. بالتأكيد وضع محافظات الصعيد كاشف لعمق هذه الفجوة على الرغم من كل الجهود التي بذلت إلا أن برامج التنمية لم تجعل هذه المحافظات منتجة لفرص العمل والدخل، بعيدا عن القطاعات التقليدية في الزراعة. فمعروف عن هذه المحافظات أنها طاردة لقوة العمل وتعاني تهميشاً.  

ثالث هذه الفجوات هي الفجوة الطبقية المتزايدة والملحوظة التي تكشف عن عمق الهوة التي تفصل بين السواد الأعظم من الشعب من محدودي الدخل وبين القلة الثرية المترفة التي تمادت في إظهار البذخ والإسراف في تجمعاتهم، في ظل مجتمع يعاني اقتصادياً وتعيش أعداد كبيرة منه في بؤس، اعترف بها بيان المبادرة المنشور على صفحة الهيئة العامة للاستعلامات الذي أشار إلى وجود أكثر من ثمانية ملايين مواطن، أي نحو 8 بالمئة من السكان منتفعين ببرنامج تكافل وكرامة، إضافة إلى العمالة غير المنتظمة في قطاعي التشييد والبناء، علاوة على الأسر الفقيرة والأولى بالرعاية. إن تجسير هذه الفجوة مقدمة ضرورية للمضي قدما في تنفيذ المبادرة، ويتماشى هذا مع منطق برامج التنمية الدولية التي جعلت مواجهة الفقر المدقع في مقدمة أهدافها.

رابع هذه الفجوات وأخطرها، هي الفجوة بين الإصلاح الاقتصادي والإصلاح السياسي. لقد أظهرت تجارب المجتمعات، بل تجربة المجتمع المصري، أن أي إصلاح اقتصادي لا تصاحبه أو تتبعه إصلاحات سياسية يخلق أوضاعاً خطيرة. وأظن أن الدولة تمضي في اتجاه معاكس بخصوص هذه الفجوة، بإصرارها على تمرير قانون الإجراءات القانونية الذي يعصف بالحريات الأساسية للمواطنين وفي مقدمتها حرمة المسكن الخاص، إذ تضمن مواد توسع من صلاحيات موظف السلطة العامة لتفتيشها بدون إذن من القضاء، من خلال حذف النص على حالتي الخطر الذي يجيز له التفتيش، في مشروع القانون، الذي أوشكت لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية بمجلس النواب على تمريره للتصويت في المجلس رغم المعارضة المتزايدة للقانون.

مرة أخرى، ليست العبرة في المبادرات بصياغاتها المنمقة والحرص على استخدام لغة تظهر الالتزام بأهداف التنمية المعلنة بموجبة خطة الألفية التي أعلنتها الأمم المتحدة، وإنما العبرة بما يجري تنفيذه على الأرض. ومن المستبعد أن تحدث هذه المبادرة أثراً، ما لم تكن مدعومة ببرامج عمل للتعامل مع هذه الفجوات المذكورة، وتؤيدها ميزانية تعكس أولويات مختلفة للإنفاق العام، وتحد من مركزية مفهوم الدولة لصالح مفهوم المجتمع، فالمجتمع هو الأصل والدولة هي المفوضة لرعاية مصالحه وإدارة شؤونه. إن جسر الفجوة القائمة منذ 2011 بين الدولة والمجتمع، بتصحيح العلاقة بينهما وإرجاع الأمر إلى أصحابه، وإقرار القائمين على إدارة شؤون الدولة بأنهم موظفون عموميون في خدمة المجتمع وأفراده، وخضوعهم لسلطة القانون في ممارسة أعمالهم، مدخل أساسي للعمل الذي يصدق على القول.. 

إن الإنسان الجديد الذي تستهدفه المبادرة يجب أن يبدأ من الموظف العام بوصفه القدوة للآخرين..
------------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات اخرى للكاتب

صباحيات | أبو زعبل 89 | عندما تعيد السينما بناء الواقع وتجيب على أسئلة شائكة